في زمنٍ باتت فيه الخوارزميات تكتب الأخبار، وتدير الاستثمارات، وتشارك في صياغة السياسات، يبرز نوعٌ جديد من المخاوف يطارد الوعي الإنساني: الروبوفوبيا (Robophobia)، أي الخوف من الروبوتات ومن الذكاء الاصطناعي على حدٍّ سواء. هذا الخوف لا ينبع من كراهية للتقنية، بل من القلق العميق تجاه فقدان السيطرة، والهوية، والمكانة في عالمٍ تُعاد فيه كتابة قواعد الوجود الإنساني.
من أين بدأ الخوف؟
تعود جذور الروبوفوبيا إلى بدايات القرن العشرين، حين ظهرت المسرحية التشيكية الشهيرة R.U.R للكاتب كارل تشابك عام 1920، والتي صاغت لأول مرة كلمة “روبوت” (Robot) من الأصل التشيكي Robota بمعنى “العمل القسري”. في تلك اللحظة الأدبية، لم يكن الروبوت مجرد آلة، بل استعارة فلسفية عن الخضوع والتمرّد، عن الإنسان الذي يصنع أداة ثم يخشى تمرّدها. ومنذ ذلك الحين، أصبح الخوف من الروبوتات جزءًا من المخيال الجمعي الإنساني.
لكن القفزة الكبرى جاءت مع دخولنا عصر الذكاء الاصطناعي الحديث — عصرٍ لم تعد فيه الروبوتات آلات ميكانيكية محدودة الحركة، بل كيانات قادرة على الفهم، التعلم، واتخاذ القرار. هنا تحوّل الخوف من كونٍ ميكانيكيٍّ إلى خوفٍ إدراكيٍّ معرفيٍّ: ماذا لو أصبح الذكاء الاصطناعي أذكى منّا؟ وماذا لو توقّف عن طاعتنا؟
الروبوفوبيا الحديثة: من السينما إلى الواقع
لا يمكن الحديث عن الروبوفوبيا دون المرور عبر السينما. فقد جسّدت أفلام مثل The Terminator وI, Robot وEx Machina مخاوفنا العميقة من لحظة الانقلاب: حين تنقلب الخوارزمية على صانعها. هذه الصور الخيالية رسّخت في اللاوعي الجمعي فكرة أن التكنولوجيا قد تتحوّل في يومٍ ما إلى عدوٍّ غير مرئي.
لكن الواقع اليوم أكثر تعقيدًا. لم تعد الروبوتات تحمل ملامح معدنية قاسية كما في الأفلام، بل وجوهًا بشرية ودودة، أصواتًا ناعمة، وخوارزميات مدرَّبة على قراءة المشاعر والتعبيرات الدقيقة. ومع ذلك، فإن القلق لم يتراجع. فكلما اقتربت الروبوتات منّا إنسانيًا، زادت المسافة النفسية التي نحاول أن نضعها بينها وبين ذواتنا.
الروبوفوبيا كتجربة نفسية
يصف علماء النفس الروبوفوبيا بأنها خوف غير منطقي أو مبالغ فيه من التعامل مع الروبوتات أو حتى مجرد وجودها. وتظهر أعراضها على شكل توتر، أو نفور، أو رفض التعامل مع الأنظمة الذكية، خاصة عندما تُظهر الروبوتات سلوكًا يشبه البشر.
هذه الظاهرة تتقاطع مع ما يسميه عالم الروبوتات الياباني ماساهيرو موري بـ “وادي الغرابة” (Uncanny Valley)، وهو المفهوم الذي يشرح سبب شعورنا بعدم الارتياح عندما يبدو الروبوت قريبًا جدًا من شكل الإنسان، لكن ليس تمامًا.
ذلك الفراغ الصغير بين “ما هو بشري” و“ما يشبه البشر” هو الفجوة التي يتسلل منها الخوف.
الأسباب العميقة: بين الوجودي والسياسي
لا يقتصر الخوف من الروبوتات على الجانب النفسي فقط، بل يمتد إلى البعد الوجودي والسياسي.
فالإنسان بطبيعته يسعى للسيطرة، والتكنولوجيا الحديثة تهدّد هذه السيطرة على مستويات متعددة:
- في سوق العمل، حيث يُخشى أن تحلّ الروبوتات محل ملايين الوظائف البشرية.
- في السلطة والمعرفة، حيث قد تُتخذ القرارات السياسية أو الاقتصادية عبر خوارزميات لا يفهمها حتى مبرمجوها.
- وفي المجال الأمني والعسكري، حيث أصبح استخدام الروبوتات القتالية المستقلة موضوعًا مثيرًا للجدل الأخلاقي والدبلوماسي.
من هنا، فإن الروبوفوبيا ليست مجرد قلق نفسي، بل أيضًا صرخة فلسفية ضد فقدان السيطرة على مصيرنا الجماعي.
الإعلام.. ومفاقمة القلق
تسهم وسائل الإعلام — بقصدٍ أو بغير قصد — في تضخيم هذا الخوف. فكل تقرير عن “روبوت قتل إنسانًا في مصنع”، أو “نظام ذكاء اصطناعي تصرّف بشكل غامض”، يعيد إشعال المخاوف القديمة من هيمنة الآلة.
في المقابل، يغيب عن النقاش العام الجانب الإيجابي: أن هذه التقنيات نفسها تنقذ أرواحًا في غرف العمليات، وتكشف الاحتيال المالي، وتحسّن التعليم، وتراقب التغير المناخي بدقة لم يسبق لها مثيل.
إن التوازن بين الرهبة والدهشة هو ما يصنع جوهر علاقتنا بالذكاء الاصطناعي. فكلما تعلّمنا أكثر عن التكنولوجيا، كلما تضاءل الخوف وحلّ محله الفضول.
الروبوفوبيا في العالم العربي
رغم أن مصطلح “روبوفوبيا” لم يترسخ بعد في الخطاب العربي، فإن مظاهره بدأت تظهر بوضوح.
تجد بعض المؤسسات والهيئات تتحفظ على استخدام الأنظمة الذكية في مجالات القضاء أو التعليم، خوفًا من فقدان “اللمسة الإنسانية”. وفي المقابل، هناك حماس متزايد بين جيل الشباب لتبني التقنيات الجديدة، ما يخلق انقسامًا ثقافيًا بين “جيلٍ يخاف” و“جيلٍ يُبدع”.
هذا الانقسام، إن لم يُدار بوعي، قد يخلق فجوة معرفية جديدة بين المجتمعات المستهلكة للتكنولوجيا وتلك المنتجة لها.
بين الخوف والأمل: نحو وعي تكنولوجي ناضج
الروبوفوبيا ليست نهاية العلاقة بين الإنسان والآلة، بل ربما بدايتها الناضجة. فمثلما خاف البشر من الكهرباء ثم جعلوها تمدّ الحياة في المدن، فإن الخوف من الروبوتات قد يكون مرحلة ضرورية في طريق التكيف مع الواقع الجديد.
المطلوب اليوم ليس تجاهل المخاوف، بل فهمها. فالتقنيات لا تفرض نفسها، بل نحن من نقرر كيف نستخدمها، وكيف نضع حدودها، وكيف نحافظ على إنسانيتنا وسط زخم التحوّل الرقمي.
إن بناء وعيٍ تكنولوجي نقدي يعني أن ندرك أن الذكاء الاصطناعي ليس نقيضًا للإنسان، بل امتدادٌ لقدراته. وأن الروبوت ليس خصمًا، بل أداة يمكنها أن تُحرّر وقتنا، وتُعمّق فهمنا لأنفسنا، إذا أحسنّا توجيهها.
المستقبل: عندما تزول الفوبيا
ربما سيأتي يوم لا نخاف فيه من الروبوتات، بل نعاملها كما نعامل أي أداة متقدمة: بوعيٍ، ومسؤولية، وحدود واضحة.
ستختفي الروبوفوبيا عندما نتعلّم أن الذكاء الاصطناعي لا يسلبنا إنسانيتنا، بل يذكّرنا بها — لأنه يجعلنا نسأل من جديد: ما الذي يجعلنا بشراً؟
حينها فقط، سيتحوّل الخوف إلى شراكة، والريبة إلى حوار، والتكنولوجيا من مصدر تهديد إلى جسرٍ جديد بين العقول.
ففي نهاية المطاف، ليست الآلات هي التي يجب أن نخاف منها، بل الفراغ المعرفي الذي نتركه بينها وبيننا.
📚 مراجع موصى بها:
- Kaplan, J. (2015). Humans Need Not Apply: A Guide to Wealth and Work in the Age of Artificial Intelligence. Yale University Press.
- Nomura, T., et al. (2008). “Prediction of Human Behavior in Human–Robot Interaction Using Psychological Scales for Anxiety and Negative Attitudes Toward Robots.” IEEE Transactions on Robotics, 24(2), 442–451.
- Mavridis, N. (2015). “The Rise of the Robots: Anxiety, Ethics, and the Future of Human–Machine Relations.” AI & Society Journal, Springer.
Add comment
Comments